مراكش: مستشار العاهل المغربي يلقي رسالة ملكية على مسامع المشاركين في الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك وصندوق النقد الدوليين
تطرق للحديث عن نزاعات لإعادة ضبط موازين القوى وإصلاح المؤسسات والقواعد التي تحكم نظام تعددية الأطراف وإصلاح المنظومة المالية والعمل على تحسينها والمغرب بلد السلام وتلاقح الحضارات وموقعه الجغرافي كصلة وصل بين إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وغيرها.
هلابريس
تلا عمر القباج مستشار جلالة الملك محمد السادس نص رسالة ملكية للمشاركين في أشغال الاجتماعات السنوية الخاصة بمجموعة البنك وصندوق النقد الدوليين وذلك في يوم الجمعة 13 أكتوبر الجاري 2023م
وعبّر جلالته من خلال متن الرسالة، عن دواعي سروره وترحيب المملكة المغربية بالمشاركين في هذه الاجتماعات في مدينة مراكش العريقة، الغنية بتاريخها وتراثها الثقافي والحضاري، ممّا جعل منها قبلة سياحية عالمية، وملتقى أثيرا لاحتضان التظاهرات الدولية الكبرى التي طبع بعضها تاريخنا الحديث، وخصّ جلالة الملك بالذكر قمة (الغات) لسنة 1994م التي شهدت ميلاد منظمة التجارة العالمية، ثم مؤخرا مؤتمر الأطراف (كوب 22) في العام 2016م مؤكداً في ذات السياق، بأنّ النجاح ذاته، سوف يٌحالف الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وأعرب جلالة الملك عن تقديره للمشاركين لما أبانوه من مشاعر الصداقة والثقة في المغرب، من خلال حضورهم بمراكش، بُعيد الزلزال المؤلم الذي ضرب البلاد ، وكذا للدول والهيئات التي عبّرت عن استعدادها لدعم المغرب لاسيما في مرحلة إعادة الإعمار.
وأشار جلالة الملك، على أنّه يسعده اليوم، بعد سنتين من التأجيل؛ بسبب الجائحة، أن نشهد انعقاد هذا المنتدى المرموق مرّة أخرى في القارة الإفريقية بعد نصف قرن، وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد عشرين سنة من دورة دبي 2003م. ومن الطبيعي- يضيف جلالة الملك- أن تُعقد آمال كبيرة على هذه الاجتماعات السنوية؛ بالنظر إلى السياق الاستثنائي الذي يمر به العالم، واعتباراً للتحديات الجيو-سياسية والاقتصادية والبيئية التي ما فتئنا نواجهها منذ سنوات وأضاف، على أنّه في الوقت الذي يواجه فيه كوكبنا تقلبات مناخية، فرضت واقعا جديدا، ما فتئت تؤكده المعطيات يوما بعد يوم، لا يزال العالم غارقا في مشكلات كنّا، إلى عهد قريب، نحسب أن جزءا كبيراً منها قد وجد طريقه إلى الحل، بفضل القواعد والمؤسسات متعددة الأطراف التي تمّ إرساؤها غداة الحرب العالمية الثانية.
وأبرز جلالة الملك، على أنّ ما نشهده اليوم من تشرذم جيو-اقتصادي وتنامٍ للنزعات السيادية، التي يُعزى جزء منها إلى الرغبة في إعادة ضبط موازين القوى الاقتصادية والسياسية على الصعيد العالمي، بات يشكل تهديداً للتقدم الكبير الذي تمّ إحرازه خلال العقود الأخيرة في ظل تعددية الأطراف ولقد كانت العولمة، التي بدأ مدّها منذ ثمانينيات القرن الماضي وساهمت في خفض تكاليف الإنتاج وتشجيع التجارة العالمية، من بين العوامل المساهمة في تخفيف حدّة التضخم الذي ينهك اليوم القدرة الشرائية للأسر في جميع أنحاء العالم، وذلك رغم السياسات النقدية المتشددة التي، وإن كان جلّها قد طُبق بشكل متزامن، لم تخلٌ من تداعيات على النشاط الاقتصادي، فقد مكنت من تحقيق بعض التقدم الملموس من خلال تحسين مستويات العيش، ممّا أسهم في تخليص فئات عريضة من سكان العالم من وطأة الفقر، بالرغم ممّا رافقها من آثار جانبية، خاصة ما تعلق منها باتساع هوة الفوارق والتفاوتات.
وأوضح العاهل المغربي في سياق ذات الخطاب، على أنّ التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها السنوات الأخيرة، تستدعي إصلاح المؤسسات والقواعد التي تحكم نظام تعددية الأطراف، لكن هذا الأمر يقتضي كذلك توطيد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها هذا النظام وإذكاء الروح التي تلهمه ذلك أنّها ما تزال ضرورية؛ لحفظ الاستقرار والسلم العالميين، والدفع قدما بتضافر الجهود للتغلب على التحديات المشتركة التي تواجه كوكبنا وشعوبنا.
مبرزاً على أنّ التصدي للتحديات العالمية يتطلب، كما نعلم جميعا، حلولا عالمية لا تتيسر إلاّ في إطار الوحدة والاحترام المتبادل بين الأمم، لاسيما عبر إدماج التنوع وتثمينه، باعتباره قيمة مضافة لا مصدراً للنزاع والفرقة مع مراعاة خصوصيات كل دولة ومنطقة.
وأشار أيضا، على أنّه يتعين إعادة النظر في المنظومة المالية العالمية والعمل على تحسينها؛ لتصبح أكثر إنصافا واستيعابا لمصلحة الجميع ولعل هذه الاجتماعات السنوية تشكل، من هذه الناحية، أنسب فضاء؛ لاحتضان حوار ونقاش بناء بشأن هذا الإصلاح، فلئن كان قدرنا أن نحيا جميعاً في هذا الكوكب، فلا سبيل لأي بلد ليبني مستقبله بمعزل عن مراعاة مصائر بقية البلدان، ذلكم هو المنظور الذي تقوم عليه رؤيتنا للتنمية في المغرب، مستندة إلى مؤهلاتنا التي هي تاريخنا العريق، ووضع بلدنا باعتباره مهداً للسلام وتلاقح الحضارات وتعايش الديانات والثقافات ثم الموقع الجغرافي لبلدنا كصلة وصل بين إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا.
و جاء في خطاب جلالة الملك أيضا على أنّه عمدنا على جعل التعاون جنوب-جنوب منطلقا أساسيا لانفتاحنا، معتمدين في ذلك نهجا يروم تحقيق التنمية المشتركة مع البلدان الشقيقة والصديقة في القارة الإفريقية وعلى الصعيد الداخلي قد أطلقنا، منذ مطلع القرن الحالي، مجموعة من الإصلاحات المجتمعية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى، فضلا عن برنامج ضخم للبنيات التحتية وبموازاة ذلك، نظل حريصين على المحافظة على التوازنات الماكرو اقتصادية التي نعتبرها ضمانة للسيادة والمرونة الاقتصاديتين ومقاربة متوازنة تسخِّر السياسة الاقتصادية لخدمة التنمية البشرية التي جعلناها أولوية مطلقة منذ اعتلائنا العرش، وهو اختيار ما فتئنا نُعزّزه منذ جائحة (كوفيد-19) كما أطلقنا، في هذا المضمار ورشاً غير مسبوق، يستهدف تعميم الحماية الاجتماعية في بلدنا، وبدأنا نستشعر نتائج هذه الرؤية بشكل ملموس، حيث أبان اقتصادنا عن قدرة مهمة على الصمود في ظل هذا السياق الدولي المعقد وغير المستقر.
وفي سياق آخر، تمكنت بلادنا من توطيد تموقعها؛ باعتبارها أرضا للسلام والأمن والاستقرار، وبوصفها شريكا ذا مصداقية، وقطبا اقتصاديا وماليا على الصعيدين الإقليمي والقاري. ولذلك، فإنّنا نعتبر احتضان بلادنا لهذه الاجتماعات ثمرة لشراكة انطلقت منذ أمد بعيد، بمعية مؤسسات (بريتون وودز) وهو كذلك شهادة على الثقة في قوة إطارنا المؤسساتي وبنياتنا التحتية والتزامنا بدورنا في تعزيز العلاقات الدولية.
و اعتبر جلالة الملك أنّ المغرب يتطلع، من منطلق انتمائه الإفريقي، إلى تمكين القارة الإفريقية من المكانة اللائقة بها ضمن بقية الهيئات الدولية، بما يمكنها من النهوض بخططها الاقتصادية والاجتماعية، بعد أن صار صوتها ممثلا بالاتحاد الإفريقي، مسموعا في مجموعة العشرين.
وكما لا يخفى عليكم، فإن دول القارة من أكثر بلدان العالم تضرراً من آثار التغيرات المناخية، رغم تصنيفها ضمن البلدان الأقل مساهمة في الأنشطة المسببة لارتفاع درجة حرارة الأرض. وبالتالي، ينبغي إعادة ضبط القواعد والأطر المنظِّمة لمعالجة إشكالية المديونية، بما يجعلها تراعي بشكل أفضل ما تعانيه الفئة الأكثر مديونية من الدول ذات الدخل المنخفض من إكراهات تحد من قدرتها على المبادرة ومواجهة التقلبات. لذلك، يحق لإفريقيا، التي يرتقب أن تأوي ربع سكان العالم في سنة 2050، أن تستفيد اليوم من الشروط الكفيلة بتمكينها من تعزيز هوامش المناورة التي تمتلكها، واستثمار مؤهلاتها في الاستجابة لاحتياجات سكانها، في عالم تخيم عليه أجواء الاضطراب واللايقين، وتطبعه تحولات عميقة طالت النماذج والمنظومات القائمة.
واختتم خطابه بالتأكيد، على أنّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، قد أبان ومعهما كافة الوكالات والهيئات الدولية التي تشكل أركان النظام العالمي متعدد الأطراف، عن مستوى عالٍ من الأداء وسرعة الاستجابة، خلال جائحة (كوفيد-19)، إذ كان دعمها لجهود العديد من الدول الأعضاء عاملا حاسما في تخفيف الآثار الاقتصادية والاجتماعية للجائحة. وإننا لعلى يقين بأن هاتين المؤسستين لن تدخرا جهداً في سبيل إنجاح هذه الاجتماعات، بما يجعلها تحرز تقدما فعليا وملموسا في تحقيق أهدافها ونأمل أن يتم تذويب الخلافات بين الاقتصادات الكبرى وحشد مزيد من الجهود والمساعي المتضافرة في سبيل السلام والرخاء العالميين، وذلك في إطار من روح التضامن إزاء البلدان الأكثر هشاشة.